هجرة الجزائريين إلى كندا حالة غير سوية

لم يتعود الجزائري، الهجرة إلى كندا إلا في السنوات الأخيرة. بعد أن تنوعت هجرته إلى بقاع جديدة من العالم (بريطانيا /دول الخليج). فالجزائري كان معروفا بهجرته إلى فرنسا تحديدا.
لم تتنوع اتجاهات الهجرة منذ سنوات عند الجزائريين، بل تغيرت سوسيولوجيتها كذلك. فالمهاجر لم يعد ذلك الشاب الأمي، الريفي والفقير الذي يصر على البقاء عند مستوى العلاقة النفعية مع البلد الذي يهاجر إليه. فالعامل الجزائري كان يرفض، كقاعدة عامة، أن يصطحب معه أبناءه وزوجته إلى فرنسا لغاية الاستقلال. مفضلا الذهاب والإياب بين ضفتي المتوسط، بكل ما يحمله ذلك من عدم استقرار وضياع لفرص العمل الجيدة، على الاستقرار في فرنسا مع عائلته، فقد كان يؤمن إيمانا راسخا بالفروق الواضحة، بين الفضاء العام (العمل) والفضاء العائلي الخاص، الذي يجب ألا يدخله غيره، خاصة إذا كان هذا الغير فرنسيا، يتعايش معه مرغما، ضمن الحالة الاستعمارية.
الهجرة الجزائرية العمالية القديمة إلى فرنسا، كانت هجرة مألوفة، وأكاد أقول عادية، فالمهاجر يغادر أرض وطنه لأسباب اقتصادية واضحة. يبقى هدفه الأصلي، تحسين ظروف معيشته والتكفل بحاجيات عائلته. عكس ما هو حاصل مع الهجرة إلى كندا هذه السنوات، فهي هجرة يمكن أخذها كمؤشر مهم عن الحالة غير السوية التي يمر بها المجتمع الجزائري، وأزمة إعادة الإنتاج التي يعيشها. التوغل في بعض مؤشرات هذه الهجرة ومناقشتها، يمكن أن يساعدنا على الفهم أكثر، فالذي يهاجر إلى كندا، ليس الشاب الطامح لفرص للعمل والنجاح فقط، بل أب لعائلة وكبير في السن، يملك وضعا اقتصاديا واجتماعيا جيدا في الجزائر، فقد هاجر الطبيب المختص الناجح، مالك العيادة الخاصة، والمهندس صاحب الخبرة وغيرهما من أصحاب المؤهلات العليا.
هاجر حسب معطيات إعلامية 42.000 جزائري بين 2006/2015 ليصل عدد المهاجرين الجزائريين إلى كندا، حسب هذه المعطيات إلى 100 ألف مهاجر، في فترة قصيرة من عمر هذه الهجرة الجديدة، كما قلت على الجزائريين. هجرة جزائرية مازالت مرتبطة بعامل اللغة، ما يجعلها تتوجه في أغلبيتها إلى كيبيك الفرنكوفونية تحديدا.
زيادة على السن الكبير والوضع الاقتصادي الاجتماعي المعقول، حتى لا أقول الجيد للمهاجر الجزائري إلى كندا، يمكن إضافة مؤشر التعليم، فالذي يهاجر عادة ما يكون متعلما تعليما عاليا وصاحب خبرة مهنية جيدة هو وزوجته وحتى أبناؤه في بعض الأحيان. فما الذي يفسر هذه الهجرة الغريبة التي لا تخضع للإطار النظري المعروف، في تفسير الهجرات البشرية.
أزمات المجتمع الجزائري المختلفة، هي التي تفسر هذه الهجرة، بما فيها تلك النظرة التي يملكها الجزائري لمجتمعه وتطوره المستقبلي ومكانته فيه. فالجزائري، ابن الشمس، يهاجر إلى كندا الباردة، لأنه لم يعد يثق في تطور بلده، ما يجعله خائفا على مستقبله في وطنه. الأهم من ذلك، يهاجر لأنه خائف على مستقبل أبنائه وهو يشاهد التدهور الذي وصلت اليه المدرسة الجزائرية والخدمات الصحية والكثير من المرافق الاجتماعية والإدارية.
لسان حاله يقول، يجب ألا يحصل لأبنائي ما حصل لي في هذا البلد. يهاجر الجزائري لأنه مقتنع بأن المال والوظيفة ليستا كل شيء في حياة الانسان. فهناك الحياة التي يجب أن يعيشها عرضا وليس طولا فقط. علما بأن الهجرة الجزائرية إلى كندا أفرغت عمليا الجزائر، من جزء مهم من فئتها الوسطى المتعلمة، كانت ومازالت في حاجة ماسة لها.
زادت وتيرة الهجرة إلى كندا، في سنوات الإرهاب التي عاشتها الجزائر وما افرزته من تداعيات لاحقا. ما يجعلنا نتطرق إلى الأسباب السياسية للهجرة والتساؤل عن حضورها كعامل تفسير. المعطيات المتوفرة عن هجرة الجزائريين وأسبابها العميقة، كما جاء في أكثر من سبر آراء، تؤكد أن أسباب الهجرة السياسية ضعيفة جدا لدى الجزائريين، فالأسباب الاقتصادية، أكثر حضورا وتلك المتعلقة بالتعليم ونوعية الحياة التي يصعب أن يصل إلى تحديدها سبر الآراء. فما تؤكده هذه الهجرة أن المجتمع الجزائري تحول إلى مجتمع طارد، ليس للفقير والأمي والشاب الصغير في السن، بل للمتعلم والكبير في السن والناجح مهنيا. في مجتمع ربع سكانه ينوي الهجرة، حسب استطلاعات رأي كثيرة، تؤكدها ظاهرة «الحرقة» التي وصلت إلى الإناث والعائلات والكبار في السن.
الهجرة في هذه السن وفي هذه الظروف إلى هذا البلد البعيد، المختلف ثقافيا، ليست كلها راحة بال ونجاحا. فالهجرة إلى كندا ولّدت الكثير من المشاكل والصعوبات، ليس أقلها طريقة التعامل مع الأبناء والبنات تحديدا، في مجتمع ليبرالي ومتحرر ثقافيا. لنكون بالتالي أمام أزمات عديدة تعيشها العائلة الجزائرية المهاجرة، كارتفاع نسب الطلاق، كما توحي بذلك بعض الاحصائيات، بعد أن اكتشفت المرأة الجزائرية حقوقا جديدة ووضعا قانونيا لم تتعود عليهما في مجتمعها الأصلي وثقافته الذكورية. علما بأن الجزائري المهاجر إلى كندا لا ينتمي إلى نمط فكري وسياسي واحد، فقد هاجر الإسلامي والليبرالي والأمازيغي، الذي يسهل عليه الدفاع عن لغته وثقافته، في هذه القارة المتنوعة ثقافيا وعرقيا.
هجرة جزائرية إلى كندا بدأت في إنتاج نخبها وجيلها الثاني، الكندي – الجزائري الذي يمكن أن تكون فرص نجاحه أكبر وأقل معاناة، من أبناء التجربة الفرنسية، الذين لم يتحرروا من ثقل حمل التاريخ الاستعماري، بين الشعبين. فهل ستكون هذه النجاحات التي يحققها هذا الجيل الثاني في كندا، مدخلا لكي تتطور أكثر هذه الهجرة وتتدعم كاتجاه جديد، في سياق التنوع الكبير الذي تعرفه هجرة الجزائريين إلى الخارج، هروبا من الوضع الذي يعيشونه في بلدهم، الذي يتحول بدوره وفي الوقت نفسه، إلى مقصد لهجرة افريقية ولدتها التحولات المناخية والاضطرابات السياسية التي تعيشها القارة.
الدكتور ناصر جابي أستاذ علم الاجتماع ومؤلف كتاب “لماذا تأخر الربيع الجزائري”