الهجرة.. عالم السيولة الدائمة
الفاهم محمد
تعتبر الهجرة ظاهرة إنسانية عامة عرفها الإنسان منذ القديم. بل يمكن القول بأن التاريخ برمته كان وليد الهجرات الكبرى، بدءاً من تلك التي خاضها الإنسان عندما خرج من الخفر الإفريقي، مهد الإنسانية، وانتشر في كل بقاع المعمور. مروراً بالسبي البابلي الذي عرفه اليهود، ثم بعد ذلك الشتات الفلسطيني، وانتهاء بما عشناه خلال القرن العشرين، وما زلنا نعيشه في الألفية الثالثة من هجرة اليد العاملة الآسيوية إلى الخليج، والمغاربية والإفريقية إلى أوروبا.
يمكن القول بأن الهجرة لا تقتصر على الإنسان لوحده، بل هي شيء فطري مجبول في طبيعة الكائنات الحية: هجرة الطيور والأسماك والحيوانات. غير أن الإنسان الذي تمتع في الماضي بحرية التجول والتنقل ها هو ذا يجد نفسه ـ ويا للمفارقة يجري هذا في عصر العولمة ـ ففي زمن القرية العالمية المفتوحة، حيث البضائع ورؤوس الأموال تعبر الحدود من دون موانع، يصبح الإنسان هو الوحيد الذي يفرض عليه أن يعيش ويموت في المكان الذي ولد فيه. وهكذا إذا كان التاريخ قد صنعته الهجرات. ها نحن نعاين لأول مرة كيف تحولت الأوطان إلى سجون. وإذا كانت العولمة تنادي بإلغاء الحدود وبالسيولة العامة للرأسمال، والشركات العابرة للقارات، والبضائع الاستهلاكية، فإن هذا لا يحدث بالنسبة للبشر، الذين ينبغي بالعكس من ذلك تشديد الحراسة على تنقلاتهم، بوساطة الأسلاك الشائكة، والأسوار والكاميرات، وأجهزة الاستشعار فائقة الحساسية، التي بإمكانها أن ترصد حركاتهم ليلاً ونهاراً.
إن مشاهد الجثث الطافية فوق الأمواج والمرمية على الشواطئ، النازحون البائسون من النساء والأطفال، وهم محاصرون ومحشورون في انتظار حلول قد تأتي وقد لا تأتي. كل ذلك وغيره أصبح اليوم مشهداً مألوفاً في الألفية الثالثة، يتجاوز الحديث عنه كل بلاغة أدبية. في هذا العصر الكوكبي أي معنى جديد يمكن أن تأخذه مفاهيم مثل الهجرة في عصر القرية العالمية؟
الاغتراب المعاصر
من هو المهاجر؟ جاء في مقدمة تقرير المنظمة الدولية للهجرة IOM التابعة للأمم المتحدة، والصادر سنة 2018 اعتبار الهجرة: «ظاهرة معقدة… ويشمل المصطلح مجموعة واسعة من التحركات والحالات التي يعيشها أشخاص من جميع الخلفيات. وتمس الهجرة اليوم، أكثر من أي وقت مضى جميع الدول والشعوب في عصر تتعمق فيه العولمة». هكذا يبدو أنه ليس من السهل الجواب على هكذا سؤال. ففي عصر العولمة، كل مواطن يمكنه في أي لحظة أن يتحول إلى مهاجر ولاجئ. وذلك ما دام أننا نعيش في وضع غير مستقر، سواء من الناحية السياسية أو الاقتصادية أو غيرها.
نحن أكثر من هذا أمام زلزال أنطولوجي، نوع من الانفجار العظيم، ولكن ليس على مستوى المادة والطاقة، بل على مستوى الوعي والتاريخ والوجود البشري. وإن كان هذا الزلزال في الآن ذاته، يمس مادة أجسادنا وطاقة وعينا وأرواحنا. في كل الشدائد والمحن التي مر بها جنس الأوموسابيانس، لا يوجد حدث يمكن مقارنته بما نعيشه حالياً. الأمر شبيه بالامتحان النهائي للوضع البشري، حيث نكون في مواجهة مباشرة مع قيامة القدر. لقد خلقت العولمة وضعاً بشرياً غير مسبوق في تاريخ الإنسانية، عبر عنه الفيلسوف الألماني المعاصر زيغمونت باومان بعالم السيولة الدائمة، واللايقين المطلق، حيث تذوب أغلب الكيانات الصلبة وتتبخر الحدود، وعلى رأسها الدولة الراعية التي لم تعد تلعب الدور الأساسي لحماية مواطنيها. في المقابل فإن الدول الغربية المتقدمة ترفض معالجة هذا «الفائض البشري» الذي تعتبر نفسها غير مسؤولة عنه. وهكذا نصل إلى النتيجة العامة وهي هذا الوضع الدرامي حيث: « تكون الصناعة الرائجة والوحيدة في أراضي أعضاء الحداثة المتأخرين (أو ما يسمى كذباً وتضليلاً باسم «الدول النامية») هي إنتاج اللاجئين بالجملة» («الأزمنة السائلة» ص 55).
أنظر هاهم الآلاف من اللاجئين يعبرون الفيافي والقيافي ثم يقفون تحت وهج الشمس في وضع اللاوضع، من دون أوراق ثبوتية أو هوية، في انتظار ترحيلهم إلى لا مكان، ما دام أن لا أحد يريد الاعتراف بهم. ذلك هو المهاجر «الدخيل» مثل فيروس خطير، يجب إبعاده عن «الجسم الاجتماعي المعافى». إنسان تتفكك إنسانيته يوماً عن يوم، فيصبح كما في منحوتات الفنان الجزائري/ الفرنسي، قادر عطية مجرد شبح.
إنه الوضع ذاته الذي أطلق عليه جورجيو أغامبين وصف «الإنسان المستباح» أي ذلك الذي لم يعد يخضع لأي سلطة سياسية أو انتماء مؤسساتي، وبالتالي فهو خارج التصنيف. ثمة وضع بشري مستجد يستدعي بالضرورة التفكير فيه من الناحية الحقوقية والقانونية. مواقف كثيرة تعلن بكل صلافة أن المهاجر ليس سوى مجرد تهديد لأمن ووحدة الجماعة، وبالتالي فهو مشكلة ينبغي استبعادها عن الحدود الآمنة. الحل إذن هو الترحيل، مناطق العزل، العنصرية. الجدران والأسلاك الشائكة. نعم يحدث هذا في زمن العولمة، فبعد سقوط جدار برلين جدران كثيرة أخرى تم بناؤها.
أسباب الانتجاع
كان البدو قديما ينتجعون، أي يتنقلون ويرحلون طلباً للعشب والرزق. ونحن أيضاً في عصر العولمة نمارس الانتجاع ولكن لأسباب أخرى. هي كما يلي:
1 ـ سياسية: سواء بسبب الحروب والتوترات الاجتماعية، أو بسبب الاستبداد وغياب الحريات العامة، يضطر البعض إلى مغادرة بلدانهم الأصلية، بحثاً عن موطن بديل يمكن أن يضمن لهم السلم والأمان، وإمكانية التعبير عن أفكارهم ومعتقداهم بكل حرية دون خوف بالمساس بهم. ويمكن القول عموماً إن مثل هذه الهجرة السياسية تتعامل معها أوروبا بنوع من التساهل، لأن الغرب ينصب نفسه كمدافع عن قيم عصر الأنوار وعن حقوق الإنسان. نلاحظ بأن اللاجئين السياسيين سواء كانوا بسبب الحروب أو بسبب طغيان الأنظمة الاستبدادية وغياب الحريات العامة، يتم القبول بهم واستقبالهم، ولكن هذا ضمن حدود معينة، لأن الهجرة السياسية اليوم أصبحت تتجاوز الأفراد كي تشمل الجماعات والتكتلات البشرية والعرقية، التي قد تعاني الحصار والتضييق في أوطانها، وهو أمر يصعب استيعابه في الغرب.
2 ـ اقتصادية: الآلاف من البشر يضطرون اليوم إلى مغادرة بلدانهم، هرباً من الفقر والهشاشة الاقتصادية وغياب فرص العمل. ذلك أن انتشار الفساد الاقتصادي والسياسي في بلدان العالم الثالث، أدى في الغالب إلى فشل المشروع التنموي. كانت النتيجة هي قوارب الموت التي تحمل سواعد في مقتبل العمر، ينتهي أغلبها جثثا هامدة على شواطئ أوروبا. وإذا كان الغرب يقبل بالهجرة السياسية، فهو على العكس من ذلك يرفض الهجرة الاقتصادية التي يعتبر نفسه غير مسؤول عنها، وفي أحسن الأحوال فهو يتبنى «الهجرة المنتقاة» التي تتماشى مع حاجته لليد العاملة.
إننا نعلم جميعاً حاجة أوروبا إلى اليد العاملة ليس فقط من أجل صناعتها وفلاحتها، بل أيضاً من أجل ضمان استمرارية كيانها الاجتماعي. فبسبب نقص معدل الخصوبة كانت دول مثل ألمانيا وإيطاليا وهولندا ستنمحي من الخريطة كما يقول المؤرخ والديموغرافي الفرنسي إمانويل طود. لم ينقذ المهاجر فقط الاقتصاد الأوروبي من الانهيار، بل أنقذ أيضا هذه المجتمعات من الأفول.
3 ـ بيئية: بالنظر إلى الانهيار البيئي، تضطر بعض الساكنة إلى مغادرة أوطانها بحثاً عن مناطق أكثر أمناً. العديد من الدراسات والتقارير تؤكد أن التغيرات المناخية، من شأنها أن تحدث تغيرات عميقة في طبيعة التجمعات البشرية خلال الخمسين سنة القادمة. الملايين من الأشخاص وجدوا أنفسهم في السنوات الأخيرة، نازحين بسبب الكوارث البيئية والعوامل الجيوفيزيائية، وربما قد يكون هذا النمط الجديد من الهجرة هو المهيمن أكثر من غيره في المستقبل.
4 ـ علمية: حيث تجد العديد من الكفاءات العلمية والمعرفية نفسها، مضطرة للبحث عن دول توفر لها بيئة علمية مناسبة، سواء للدراسة أو للبحث العلمي. هذه هي الظاهرة التي تعرف عادة بهجرة الأدمغة. تقدر بعض التقارير مثل تلك الصادرة عن منظمة اليونيسكو، أن ثلث هذا النوع من الهجرة يكون مصدره هو العالم العربي.
5 ـ ثقافية: وهي أسباب غالباً ما لا يتم الانتباه لها، غير أنها أصبحت ظاهرة مميزة لوضعنا الراهن. ففي عصر العولمة أصبح العديد من الشباب يعشون ما يمكن أن نسميه «حياة معولمة» سبق لعالم الاجتماع الفرنسي ميشيل مافيسولي أن تناولها في كتابه «الحل والترحال» والمقصود بها، حالة التيه التي تدفع المرء إلى البحث عن المعنى الضائع لحياته، فيغير موطنه كي يعيش حياة جديدة، ويمارس ثقافة أخرى ويتحدث لغة مغايرة. هذا هو إنسان عصر العولمة الذي يضرب في مناكب الأرض، حاله شبيهة بتلك «الروح الهائمة» التي حدثنا عنها نيتشه. المهاجر في عصر العولمة وكما في التماثيل المدهشة لبرونو كاتالانو، يحمل حقيبة سفره، ويحمل في ذاته فراغاً كبيراً وقطعاً ضائعة يسافر بحثاً عنها. نحن إذن نسافر من أجل العثور على شيء ما، وهذا الشيء هو أنفسنا. كل هذا يعني أنه لا يمكننا اختزال قضية الهجرة والمهاجرين في الجوانب الاقتصادية والسياسية فقط، بل هي أضحت تتعدى ذلك كي تصبح حالة إنسانية عامة.
عصر التيه والترحال
لقد أصبحت الهجرة ظاهرة عالمية وشاملة تحدث في الجهات الأربع للمعمور. ثم إن إغراءات الهجرة تتزايد بالنظر إلى الانفتاح على الشبكة العنكبوتية، حيث بإمكان أي أحد أن يعرف الكثير من المعلومات عن كل نقطة في المعمور. إننا نهاجر افتراضياً قبل أن نهاجر واقعياً.
العديد من اللقاءات عقدت من أجل النظر في قضايا الهجرة والمهاجرين، إلا أن الملاحظ عموماً هو أن سياسة الهجرة ـ لحد الآن على الأقل ـ تتركز حول ضبط تدفق اللاجئين بما يتناسب والحاجة إلى اليد العاملة، لذلك فنحن ما زلنا نفتقد إلى سياسة شاملة وممنهجة لمعالجة هذه المشكلة كظاهرة حضارية مميزة بشكل خاص للألفية الثالثة.
تساهم الهجرة في عصر العولمة في صنع هذا الاختلاط المعمم للثقافات والحضارات، في صهر الهويات وإعادة تشكيلها، في المزج بين اللغات والعادات والتقاليد. عصرنا هو عصر الهجائن، ليس فقط بين الإثنيات والأعراق، بل أيضاً بين الأفكار والمعتقدات والحضارات. وإذا اقتصرنا فقط على ما حدث في القرون الأخيرة فقد صنعت الهجرة أمماً كاملة، مثل أميركا وكندا وأستراليا وغيرها، وبالنظر إلى ما يحدث اليوم وحجم اتساع هذه الظاهرة فمن المنتظر أن تغير الهجرة وجه الحضارة البشرية برمتها فنحن نعيش فجر ميلاد المواطنة العابرة للحدود. لذلك يحق للمرء أن يتساءل أي كيانات سياسية واجتماعية ستنتج عن هذا الحراك العالمي الذي نسميه بالهجرة ؟ ما هو أكيد هو أننا نتجه باتجاه عالم مفتوح، يؤثثه التعدد والكثرة، لكن في الآن ذاته الوحدة والانسجام. هناك ثقافات متعددة تتعايش جنب بعضها البعض، مع وجود ثقافة واحدة عالمية هي ثقافة الحرية وحقوق الإنسان والسلام والتعايش. إن المنفى اليوم هو البقاء حيث ولدنا، والوطن هو الطريق، ولا شيء آخر غير الأفق.